وهنا أصبح الأمر جلياً واضحاً حتى نقدر أن نتعامل مع المغيبات يجب أن يكون القلب سليماً نظيفاًً وحتى يكون القلب سليماً نظيفاً يجب أن تكون الحواس الأولى التي تزود القلب بالمعلومات حواس نظيفة غير عاصية.
ولكن يجب هنا أن نوضح أمراً أن الغيب غيبان :
أ - غيب نستطيع أن نتعرّف عليه معرفة جزئية إذا رفعنا الحجب :1.
1- مثلاً غيب الجنة :تكلم القرآن على وصف الجنة (( عرضها السموات والأرض)) ((فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة)) بعض الناس ينكشف لهم فيرون الجنة ولكن هنا القرآن يظهر أن للجنة بعد غيبي ترك للمفاجأة الله أخفاه عن خلقه باستثناء الخاتم وأهل بيته حين يقول القرآن (( ما لا عين رأت و لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) أي أن مهما حاولتم أن تعرفوا كل حقائق الجنة لن تقدروا لأن عالم الغيب عالم غير محكوم بالحدود المادية.
2.مثلاً غيب الموت : مهما حاولنا أن نعرف الموت فلن نستطيع معرفته معرفة حقيقية إلا إذا وصلنا الى الموت الإختياري وهو عملية إنفصال الروح عن قيود الجسم وتحررها فتعبر العوالم للحظات ثم تعود لترتبط بالجسد مرة أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وآله " من أراد أن ينظر الى ميّت يمشي على الأرض فلينظر الى علي بن أبي طالب" وهذه القدرة تتكون لدى المؤمنين الصادقين بعد معالجة جهادية صادقة تسمى "جهاد النفس" لإزالة الحجب عن الحواس الباطنية لإن التوجه إلى غير الله تعالى يحجب الإنسان بحجب "ظلمانية" وحجب "نورانية" وحجب أخرى سنأتي على ذكرها لاحقاً.
a.الحجب الظلمانية : الأمور الدنيوية بأجمعها إذا ما تسببت في انشداد الإنسان إلى الدنيا وغفلته عن الله تبارك وتعالى، فإنها تبعث على الحجب "الظلمانية". فالإنسان الذي لم يبدد بعد حجب الظلم؛ الإنسان الذي ما تزال كل توجهاته إلى عالم الطبيعة ومنحرفاً عن الله ـ والعياذ بالله ـ ويجهل أساساً عما وراء الطبيعة والعالم الروحي ولن يفكر ـ في أي وقت بتهذيب نفسه والاستفادة من القوى الروحية والمعنوية الذاتية لإزالة ما ران على قلبه من ظلمة الذنوب.. إن إنساناً هذا شأنه هو في الحقيقة في أسفل سافلين، الذي هو أدنى حجب الظلام وأشدها: {ثم رددناه أسفل سافلين} عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه واله: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا.في حين إن الله سبحانه خلق الإنسان في أسمى مرتبة ومقام: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}
b.الحجب النورانية عندما تكون الدنيا وسيلة التوجه إلى الله تعالى والوصول إلى دار الآخرة، التي هي "دار التشريف"، فإن حجب الظلام هذه تتبدل بحجب النور ، أي ضبط العلاقات الأربعة : (الله – النفس – الأسرة والمجتمع – النعم الكونية) وهي جعل النفس خاضعة لله أولاً فلا نربي أولادنا مثلاً من منطلق أنهم مملكون لنا لرضا تلك النفس بل تربيتهم لله وحب المال التي هي من النعم الكونية كلها لله وطاعة الله والسعي للتعلم ليس لنفسه بل بما أنه وسيلة للوصول فكل خير نطلبه لنفسه عندئذ يصبح هدفاً بدلاً من أن يكون وسيلة يصبح حجاباً نورانياً. وحجب النور أنواع كثيرة منها هذه الأمثلة لتوضيح المطلب :
مثل التعلق بالمعنويات كولاية النفس والأنانية ،
• حب العبادة من أجل الحصول على الكرامات والرؤيا ،
• أو القيام بصلاة الليل من أجل الرزق وليست حباً لله،
• تعلّم العلم لمجرّد تجميع المعلومات وليس للتطبيق والعمل
1- غيب رسول الله الأئمة صلوات الله عليهم في مقام ظهورهم الخارجي : الإمام المهدي وحده (عجل ) هو من يمكن رؤيته بالعين المادية العادية وأما الأئمة الباقين يمكن رؤيتهم بالعين المادية إن كنا من أصحاب الرجعة في زمن الرجعة وهو زمن يأتي بعد ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه.
أ- وغيب مجرّد غير قابل للمعرفة بكنهه نهائياً : وذلك ليس لعدم القدرة على الإستيعاب فقط بل لأن هذا الغيب غير قابل للمعرفة والظهور أصلاً لأن الكلمات والأحرف لا تلبي معرفة هذا المجرّد بحقيقته إذ أنه من عالم السرّ والأمر مثل "الروح" وهنا القرآن يوضح ذلك عندما جاء جماعة من اليهود يسألون رسول الله عن حقيقة الروح فنزلت الآية (( ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)) أي يا رسول الله قل أن الروح من "عالم الأمر" غير قابلة للتعريف بالكلمات إنما ندرك آثار الروح وهي "الحياة" والقرآن يصرح أن العلوم التي لدينا كلها مبنية على الكلمات.
خصائص المجرد
المجرد هو ما لا يدرك بالحواس الظاهرية المادية مثل الألم ، الموت ، الروح ، فمعرفة هذا النوع من الغيب يكون معرفة حضورية في النفس كمعرفة الإنسان بنفسه كالشعور بالخوف أو الجوع شعور غير قابل للنقل أو تشكيل صورة عنه هل يمكن لأي شخص أي يتخيّل صورة مادية للألم وليس انطباع صورة للمعلومة في الذهن كقولنا قلم مثلاً فوراً تنطبع صورة القلم في ذهننا أما قولنا روح فلا يمكن رؤية أي صورة في الذهن.
كيفية إدراك المجرد
المجرد لا يدرك بحقيقته بل بآثاره الخارجية مثل الألم فمن لم يعاني من أي ألم في حياته لا يستطيع أن يعرف شعور المتألم لإنه شعور حضوري وليس تصوري مثلاً إذا فتاة عزباء وصفوا لها آلام الولادة مهما عاشت أنواع من الألم هل تقدر أن تعرف كيفية آلام الولادة؟ إلا أن تعيش التجربة بواقعها بأثرها الخارجي الأمر يصبح تجربة حيّة.
نتيجة هذا الشرح
أن الإنسان لديه اتصال بعالمين عالم حسي وعالم غيبي ولا يمكن التعامل مع هذين العالمين معاً إلا بتحصيل اليقين في مراتب الإيمان لأن القلب يجب أن يكون خالياً من الشك والخبائث والمعاصي وذلك لا يتم إلا بدروس العقائد وجهاد النفس معاً :
لذلك جانباً الى جنب مع دروس العقائد ومعرفة الله سيرافقنا أيضاً توضيح مسائل جهاد النفس حتى تظهر في قلوبنا مراتب الإيمان في جميع أبعاده
أ- العقيدة تنتج معرفة الله والرسول أهل البيت عليهم السلام ومعرفة مقاماتهم الذين هم وسيلتنا الى الله فيرتفع بذلك القلب ارتفاعاً عالياً جداً ويرتفع مستوى العبادات وأجرها لأن " ركعتان يصليهما عالم خير من سبعين يصليها جاهل"
ب- وجهاد النفس الذي يطهّر القلب من الخبائث حتى يظهر نور الله في القلب فتنكشف لنا الحقائق.
لذلك ينبغي أن نعرّف الإيمان :ما هو الإيمان ؟
الإيمان هو إنعقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح ، فبينما نجد أن البعض يقر دائما بأنه مؤمن بالله وكتبه ورسله ولكن نجد أن هذا الاقرار إقرار نظري دون تطبيق ، فمجرد القول اللساني غير كاف ، بل لا بد من ترجمة هذا الإيمان بالأفعال وهذا ما يعبّر عنه بمراتب الظهور للإيمان على مستوى العمل ((قل كل يعمل على شاكلته)) أما المقام الغيبي للإيمان فهو ما يكون بالقلب ودل عليه القرآن (( إنما الأعمال بالنيات )). والجدير بالذكر أن أي خلل باي لإيمان فمقام القلب يؤدي الى خلل في مقام العمل ويظهر هذا الخلل على ثلاث فروع من المعصية المختلفة :
1- الكفر : وهو جحود الإيمان عمدا بالقلب واللسان والجوارح وقد ظهر جليّاً في القرآن في التقصير المتعمّد في فروع الدين مثل الحج الذي فرضه الله على الناس مشروطا بعدة شروط منها الأمن أو اليسرة المالية (( ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)) وهنا يظهر جليا أن الناس غير العقائديين ليس لديهم إلمام بالمعنى الحقيقي للكفر باعتقادهم أن الكف هو الإلحاد وهذا خطأ كبير فهناك فرق كبير بين "الكفر" و "الإلحاد" وهذه الأية تدل بوضوح أن من يستطيع الذهاب للحج ويتخلف عنه عمدا فقد وقع في الكفر العملي أي جحود الامتثال للأمر الآلهي بأداء فريضة الحج وهو قادر عليها بغير عذر ، أو كمن ترفض ارتداء الحجاب بحجة عدم اقتناعها ، وتجاهر بهذا الامتناع أما الإلحاد فشأنه شأن آخر ومعناه إنكار وجود الخالق.
2- الفسق : خروج الانسان عن حدود الشرع وانتهاك قوانينه بالسيئات وارتكاب المحرمات والكبائر فنقول فسقت التمرة أي انفصل اللب عن قشرها وللفسق درجات ولكن يبلغ الفسق حدّه الأقصى عندما يصل الإنسان الى مرحلة أنه يخرج عن فطرة الولاية.
3- الشرك : المعنى اللغوي للشرك هو المقارنة والمخالطة وخلاف الإنفراد ، أما التعريف الديني للشرك فهو إتخاذ الندّ مع الله سبحانه وتعالى في الربوبية أو في الأسماء والصفات " ولا تجعلوا لله أندادا" فإذا كنا نقول أن الله واحد أحد لا شريك له فلا يجوز إشراك أحد مع الله في المستويات الثلاثة القلب كالحب واللسان كمن يجمع بين رأي الشارع المقدس ورأيه الخاص وذلك كمن يعرف أنه لابد له من تقليد مرجع في أمور الدين إلا أنه يقول أما أنا فغير مقتنع بذلك ويعتقد أن بإمكانه قراءة القرآن واستخراج المبادئ بنفسه، فهو بهذا يكون قد قارن وغلّب بين رأيه الشخصي وأمر الله والعمل كطاعة غير الله والشرك الذي وقع به اليهود والنصارى على مستوى العقائد التوحيدية أما الشرك الخفي على مستوى القلب فقد وقعت فيه أمة رسول الله صلّى الله عليه وآله فقد قال رسول الله "الشرك في أمتي أخفى من النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء "